فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما معنى النسيء وبدوّ أمره على ماذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق، فهو إن العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لايغزون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئًا لنجوعنّ، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربّما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم.
وكانوا يمكثون بذلك زمانًا يحرّمون صفر، وهم يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأوّل بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا صفر، على هذا ثم يحتاجون أيضًا إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخيرالمحرم، فيؤخّرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلّها، فقام الإسلام قد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل.
وقال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كل شهر عامين، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجّوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: «ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السموات والأرض إن السنة إثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان».
أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء.
واختلفوا في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: أوّل من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان (يليه) أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول: أيّها الناس إني أُحدّث ولا أخاف ولا مردّ لما أقول. إنّا قد حرمنا المحرم، وأخّرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل فيقول: إنّا قد حرّمنا صفر وأخّرنا المحرم.
وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان يكون قبل الناس بالموسم، وإذا همّ الناس بالصّدر قام فخطب الناس فقال: لا مردّ لما قضيت، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألهم أن ينسئهم شهرًا يغيّرون فيه، فيقول: إن القتال العام حرام، وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة، وإن قال: حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس.
[وقيل بعد] نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له القملّس في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية لايغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم: اخرجوا بنا فيقال له: هذا المحرم، فيقول القملّس: إني قد نسأته العام صفران، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين، وقال [...] وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معدٍّ ** شهور الحلّ نجعلها حراما

فهو النسيء الذي قال الله تعالى: {إنما النسيء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ} قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يَضِل بفتح الياء وكسر الضاد، واختاره أبو حاتم لأنه ضمّ الضالون لقوله: {بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن: يضل مكسورة الضاد، ولها وجهان: أحدهما أن يكون {الذين كَفَرُواْ} في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا.
والوجه الثاني أن يكون {الذين} في محل رفع على معنى يُضِل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم، وقرأ أهل الكوفة: يُضل بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زُيّن لهم سوء أعمالهم ويحلّونه يعني النسيء عامًا ويحرّمونه عاما {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا، قال ابن عباس: ليشبهوا، قال المؤرّخ: هو أنهم لم يحلّوا شهرًا من الحرم إلا حرّموا مكانه شهرًا من الحلال، ولم يحرّموا شهرًا من الحلال إلاّ أحلوا مكانه شهرًا من الحرم لئلاّ تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقًا للعدد، فذلك المراد.
{فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...}
أما النسيء في الأشهر فهو تأخيرها، مأخوذ من بيع النسيئة، ومنه قوله تعالى: {مَا نَنسَخُ مِنْ ءَايَةٍ أَوْنُنسِهَا} أي نؤخرها.
وفي نَسْء الأشهر قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يومًا حتى يجعلوا المحرم صفرًا، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهرًا.
قال مجاهد: فحج المسلمون في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين: ثم حجوا في صفر عامين، ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فذلك حين يقول: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» وكان المنادى بالنسيء في الموسم: من بني كنانة على ما حكاه أبو عبيدة، وقال شاعرهم عمير بن قيس:
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ ** شهور الحل نجعلُها حَرامًا

واختلف في أول من نسأ الشهور منهم، فقال الزبير بن بكار: أول من نسأ الشهور نعيم بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة.
وقال أيوب بن عمر الغفاري: أول من نسأ الشهور القَلمّس الأكبر وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وآخر من نسأ الشهور أبو ثمامة جنادة بن عوف إلى أن نزل هذا التحريم سنة عشر وكان ينادي إني أنسأ الشهور في كل عام، ألا أن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، فحرم الله سبحانه بهذه الآية النسيء وجعله زيادة في الكفر.
ثم قال تعالى: {... لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا فحرموا أربعة أشهر كما حرم الله تعالى أربعة أشهر.
{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى زينها بالشهرة لها والعلامة المميزة بها لتجتنب.
الثاني: أن أنفسهم والشيطان زين لهم ذلك بالتحسين والترغيب ليواقعوها، وهو معنى قول الحسن.
وفي {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} هاهنا وجهان:
أحدهما: أنه ما قدمه من إحلالهم ما حرم الله تعالى وتحريمهم ما أحله الله.
الثاني: أنه الرياء، قاله جعفر بن محمد. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}
{النسيء} على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه» وقرأ جمهور الناس والسبعة {النسيء} كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ {النسيّء} بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري {النسيء}، وقرأ أيضًا فيما روي عنه {النسء} على وزن النسع وقرأت فرقة {النسي}.
فأما {النسيء} بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
قال القاضي أبو محمد: وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء، وقاله الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر، وقال أبو وائل كان النسيء رجلًا من بني كنانة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأما {النسي} فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وأما {النسء} هو مصدر من نسأ إذا أخر، وأما {النسي} فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.
قال القاضي أبو محمد: والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، وقوله: {زيادة في الكفر} أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد: ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم: [الوفر]
ومنا منسيء الشهر القلمس

وقال الآخر: [الكامل]
نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها ** من قبلكم والعز لم يتحول

ومنه قول جذل الطعان: [الوافر]
وقد علمت معدّ أَنَّ قومي ** كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر ** وأي الناس لم تعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد ** شهور الحل نجعلها حراما

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر {يَضِل} بفتح الياء وكسر الضاد، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون {يُضِل} بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم، فـ {الذين} في التأويل الأول في موضع نصب، وفي الثاني في موضع رفع، وقرأ عاصم أيضًا وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه {يُضِل} بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {زين} للتناسب في اللفظ، وقرأ أبو رجاء {يَضل} من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «حتى يضَل الرجل إن يدر كم صلى» بفتح الضاد وكسرها، وقوله: {يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا} معناه عامًا من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.
قال القاضي أبو محمد: وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلًا منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.
قال القاضي أبو محمد: والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات، وقد بينه مجاهد وأبو مالك، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم. أي ذلك كان، وقوله: {ليواطئوا} معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.
قال القاضي أبو محمد: فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرًا من السنة بغير مرض أو سفر، وقوله: {زين} يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار.
قال القاضي أبو محمد: وذكر أبو علي البغدادي في أمر النسيء أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرًا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.
قال القاضي أبو محمد: واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون.
قال القاضي أبو محمد: فهم على هذا عدة، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر»، فقال بعض الناس: إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء، وقيل غير ذلك. اهـ.